الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
مدنية في قول ابن عباس، ذكره النحاس. وقال الماوردي: في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت عليه بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه، فنزل عليه {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل مكة كفروا بتوحيد الله، وصدوا أنفسهم والمؤمنين عن دين الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه، وقال السدي. وقال الضحاك}عن سبيل الله}عن بيت الله بمنع قاصديه. ومعنى }أضل أعمالهم}: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم، قال الضحاك. وقيل: أبطل ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم، من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وحفظ الجوار. وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين ببدر، وهم اثنا عشر رجلا: أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبي وأمية ابنا خلف، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل. {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} قوله تعالى}والذين آمنوا}قال ابن عباس ومجاهد: هم الأنصار. وقال مقاتل: إنها نزلت خاصة في ناس من قريش. وقيل: هما عامتان فيمن كفروا وآمن. ومعنى }أضل أعمالهم}: أبطلها. وقيل: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق. }وعملوا الصالحات}من قال إنهم الأنصار فهي المواساة في مساكنهم وأموالهم. ومن قال إنهم من قريش فهي الهجرة. ومن قال بالعموم فالصالحات جميع الأعمال التي ترضي الله تعالى. }وآمنوا بما نزل على محمد}لم يخالفوه في شيء، قال سفيان الثوري. وقيل: صدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به. }وهو الحق من ربهم}يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم. وقيل: أي إن القرآن هو الحق من ربهم، نسخ به ما قبله }كفر عنهم سيئاتهم}أي ما مضى من سيئاتهم قبل الإيمان. }وأصلح بالهم}أي شأنهم، عن مجاهد وغيره. وقال قتادة: حالهم. ابن عباس: أمورهم. والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم. وحكى النقاش أن المعنى أصلح نياتهم، ومنه قول الشاعر: وهو على هذا التأول محمول على صلاح دينهم. }والبال}كالمصدر، ولا يعرف منه فعل، ولا تجمعه العرب إلا في ضرورة الشعر فيقولون فيه: بالات. المبرد: قد يكون البال في موضع آخر بمعنى القلب، يقال: ما يخطر فلان على بالي، أي على قلبي. الجوهري: والبال رخاء النفس، يقال فلان رخي البال. والبال: الحال؛ يقال ما بالك. وقولهم: ليس هذا من بالي، أي مما أباليه. والبال: الحوت العظيم من حيتان البحر، وليس بعربي. والبالة: وعاء الطيب، فارسي معرب، وأصله بالفارسية بيلة. قال أبو ذؤيب: الآية رقم ( 3 ) {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم} قوله تعالى}ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم}}ذلك}في موضع رفع، أي الأم ذلك، أو ذلك الإضلال والهدى المتقدم ذكرهما سببه هذا. فالكافر اتبع الباطل، والمؤمن اتبع الحق. والباطل: الشرك. والحق: التوحيد والإيمان. }كذلك يضرب الله للناس أمثالهم}أي كهذا البيان الذي بين يبين الله للناس أمر الحسنات والسيئات. والضمير في }أمثالهم}يرجع إلى الذين كفروا والذين آمنوا. {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم} قوله تعالى}فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب}لما ميز بين الفريقين أمر بجهاد الكفار. قال ابن عباس: الكفار المشركون عبدة الأوثان. وقيل: كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردي. واختاره ابن العربي وقال: وهو الصحيح لعموم الآية فيه. }فضرب الرقاب}مصدر. قال الزجاج: أي فاضربوا الرقاب ضربا. وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بها. وقيل: نصب على الإغراء. قال أبو عبيدة: هو كقولك يا نفس صبرا. وقيل: التقدير اقصدوا ضرب الرقاب. وقال}فضرب الرقاب}ولم يقل فاقتلوهم، لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه. قوله تعالى}حتى إذا أثخنتموهم}أي أكثرتم القتل. وقد مضى في }الأنفال}عند قوله تعالى روي عن بعضهم أنه قال: كنت واقفا على رأس الحجاج حين أتي بالأسرى من أصحاب عبدالرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة فقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من كندة فقال: يا حجاج، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا قال: ولم ذلك؟ قال: لأن الله تعالى قال}فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء}في حق الذين كفروا، فوالله ما مننت ولا فديت؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: فقال الحجاج: أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام؟ خلوا سبيل من بقي. فخلي يومئذ عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين، بقول ذلك الرجل. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال: الأول: أنها منسوخة، وهي في أهل الأوثان، لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم. والناسخ لها عندهم قوله تعالى الثالث: أنها ناسخة، قال الضحاك وغيره. روى الثوري عن جويبر عن الضحاك قال النحاس: وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن، لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ، إذا كان يجوز أن يقع التعبد إذا لقينا الذين كفروا قتلناهم، فإذا كان الأسر جاز القتل والاسترقاق والمفاداة والمن، على ما فيه الصلاح للمسلمين. وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد، وحكاه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة، والمشهور عنه ما قدمناه، وبالله عز وجل التوفيق. قوله تعالى}حتى تضع الحرب أوزارها}قال، مجاهد وابن جبير: هو خروج عيسى عليه السلام. وعن مجاهد أيضا: أن المعنى حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب. ونحوه عن الحسن والكلبي والفراء والكسائي. قال الكسائي: حتى يسلم الخلق. وقال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقال الكلبي: حتى يظهر الإسلام على الدين كله. وقال الحسن: حتى لا يعبدوا إلا الله. وقيل: معنى الأوزار السلاح، فالمعنى شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح. وقيل: معناه حتى تضع الحرب، أي الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة. ويقال للكراع أوزار. قال الأعشى: ومن نسج داود يحدى بها على أثر الحي عيرا فعيرا وقيل}حتى تضع الحرب أوزارها}أي أثقالها. والوزر الثقل، ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال. وأثقالها السلاح لثقل حملها. قال ابن العربي: قال الحسن وعطاء: في الآية تقديم وتأخير، المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وليس للإمام أن يقتل الأسير. وقد روي عن الحجاج أنه دفع أسيرا إلى عبدالله بن عمر ليقتله فأبى وقال: ليس بهذا أمرنا الله، وقرأ }حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق}. قلنا: قد قاله رسول الله: صلى الله عليه وسلم وفعله، وليس في تفسير الله للمن والفداء منع من غيره، فقد بين الله في الزنى حكم الجلد، وبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم الرجم، ولعل ابن عمر كره ذلك من يد الحجاج فاعتذر بما قال، وربك أعلم. قوله تعالى}ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم}}ذلك}في موضع رفع على ما تقدم، أي الأمر ذلك الذي ذكرت وبينت. وقيل: هو منصوب على معنى افعلوا ذلك. ويجوز أن يكون مبتدأ، المعنى ذلك حكم الكفار. وهي كلمة يستعملها الفصيح عند الخروج من كلام إلى كلام، وهو كما قال تعالى {سيهديهم ويصلح بالهم} قال القشيري: قراءة أبي عمرو }قتلوا}بعيدة، لقوله تعالى}سيهديهم ويصلح بالهم}والمقتول لا يوصف بهذا. قال غيره: يكون المعنى سيهديهم إلى الجنة، أو سيهدي من بقي منهم، أي يحقق لهم الهداية. وقال ابن زياد: سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، ومن ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين}فلن يضل أعمالهم. سيهديهم}ومنه قوله تعالى {ويدخلهم الجنة عرفها لهم} أي إذا دخلوها يقال لهم تفرقوا إلى منازلكم؛ فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم. قال معناه مجاهد وأكثر المفسدين. وفي البخاري ما يدل على صحة هذا القول يقول: كما عرف الإتب، وهو البقير والبقيرة، وهو قميص لا كمين له تلبسه النساء. وقيل: هو من وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته، يقال حرير معرف، أي بعضه على بعض، وهو من العرف المتتابع كعرف الفرس. وقيل}عرفها لهم}أي وفقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنة. وقيل: عرف أهل السماء أنها لهم إظهارا لكرامتهم فيها. وقيل: عرف المطيعين أنها لهم. {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} قوله تعالى}يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم}أي إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار. نظيره {والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم} قوله تعالى}والذين كفروا فتعسا لهم}يحتمل، الرفع على الابتداء، والنصب بما يفسره }فتعسا لهم}كأنه قال: أتعس الذين كفروا. و}تعسا لهم}نصب على المصدر بسبيل الدعاء، قاله الفراء، مثل سقيا له ورعيا. وهو نقيض لعا له. قال الأعشى: وفيه عشرة أقوال: الأول: بعدا لهم، قاله ابن عباس وابن جريج. الثاني: حزنا لهم، قاله السدي. الثالث: شقاء لهم، قال ابن زيد. الرابع: شتما لهم من الله، قاله الحسن. الخامس: هلاكا لهم، قال ثعلب. السادس: خيبة لهم، قاله الضحاك وابن زيد. السابع: قبحا لهم، حكاه النقاش. الثامن: رغما لهم، قاله الضحاك أيضا. التاسع: شرا لهم، قاله ثعلب أيضا. العاشر: شقوة لهم، قال أبو العالية. وقيل: إن التعس الانحطاط والعثار. قال ابن السكيت: التعس أن يخر على وجهه. والنكس أن يخر على رأسه. قال: والتعس أيضا الهلاك. قال الجوهري: وأصله الكب، وهو ضد الانتعاش. وقد تعس بفتح العين يتعس تعسا، وأتعسه الله. قال مجمع بن هلال: يقال: تعسا لفلان، أي ألزمه الله هلاكا. قال القشيري: وجوز قوم تعس بكسر العين قلت: ومنه قوله تعالى}وأضل أعمالهم}أي أبطلها لأنها كانت في طاعة الشيطان. ودخلت الفاء في قوله}فتعسا}لأجل الإبهام الذي في }الذين}، وجاء }وأضل أعمالهم}على الخبر حملا على لفظ الذين، لأنه خبر في اللفظ، فدخول الفاء حملا على المعنى، }وأضل}حملا على اللفظ. {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} أي ذلك الإضلال والإتعاس، لأنهم }كرهوا ما أنزل الله}من الكتب والشرائع. }فأحبط أعمالهم}أي ما لهم من صور الخيرات، كعمارة المسجد وقرى الضيف وأصناف القرب، ولا يقبل الله العمل إلا من مؤمن. وقيل: أحبط أعمالهم أي عبادة الصنم. {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها} بين أحوال المؤمن والكافر تنبيها على وجوب الإيمان، ثم وصل هذا بالنظر، أي ألم يسر هؤلاء في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا بهم }فينظروا}بقلوبهم }كيف كان}آخر أمر الكافرين قبلهم. }دمر الله عليهم}أي أهلكهم واستأصلهم. يقال: دمره تدميرا، ودمر عليه بمعنى. }وللكافرين أمثالها}ثم تواعد مشركي مكة فقال}وللكافرين أمثالها}أي أمثال هذه الفعلة، يعني التدمير. وقال الزجاج والطبري: الهاء تعود على العاقبة، أي وللكافرين من قريش أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة إن لم يؤمنوا. {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} قوله تعالى}ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا}أي وليهم وناصرهم. وفي حرف ابن مسعود }ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا}. فالمولى: الناصر ها هنا، قاله ابن عباس وغيره. قال: قال قتادة: نزلت يوم أحد والنبي صلى الله عليه وسلم في الشعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزى ولا عزى لكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [قولوا الله مولانا ولا مولى لكم] وقد تقدم. }وأن الكافرين لا مولى لهم}أي لا ينصرهم أحد من الله. {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} قوله تعالى}إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار}تقدم. }والذين كفروا يتمتعون}في الدنيا كأنهم أنعام، ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عما في غدهم. وقيل: المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع. }والنار مثوى لهم}أي مقام ومنزل. {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم} قوله تعالى}وكأين من قرية}تقدم الكلام في }كأين}في ل عمران وهي ها هنا بمعنى كم، أي وكم من قرية. وأنشد الأخفش قول لبيد: فيكون معناه: وكم من أهل قرية. }قريتك التي}أي أخرجك أهلها. }أهلكناهم فلا ناصر لهم} {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} قوله تعالى}أفمن كان على بينة من ربه}الألف ألف تقرير. ومعنى }على بينة}أي على ثبات ويقين، قال ابن عباس. أبو العالية: وهو محمد صلى الله عليه وسلم. والبينة: الوحي. }كمن زين له سوء عمله}أي عبادة الأصنام، وهو أبو جهل والكفار. }واتبعوا أهواءهم}أي ما اشتهوا. وهذا التزيين من جهة الله خلقا. ويجوز أن يكون من الشيطان دعاء ووسوسة. ويجوز أن يكون من الكافر، أي زين لنفسه سوء عمله وأصر على الكفر. وقال}سوء}على لفظ }من}}واتبعوا}على معناه. {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم} قوله تعالى}مثل الجنة التي وعد المتقون}لما قال عز وجل ويروى }الوسن}. وتأسن الماء تغير. أبو زيد: تأسن علي تأسنا اعتل وأبطأ. أبو عمرو: تأسن الرجل أباه أخذ أخلاقه. وقال اللحياني: إذا نزع إليه في الشبه، وقراءة العامة }آسن}بالمد. وقرأ ابن كثير وحميد }أسن}بالقصر، وهما لغتان، مثل حاذر وحذر. وقال الأخفش: أسن للحال، وآسن مثل فاعل يراد به الاستقبال. قوله تعالى}وأنهار من لبن لم يتغير طعمه}أي لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة. }وأنهار من خمر لذة للشاربين}أي لم تدنسها الأرجل ولم ترنقها الأيدي كخمر الدنيا، فهي لذيذة الطعم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون. يقال: شراب لذ ولذيذ بمعنى. واستلذه عده لذيذا. }وأنهار من عسل مصفى}العسل ما يسيل من لعاب النحل. }مصفى}أي من الشمع والقذى، خلقه الله كذلك لم يطبخ على نار ولا دنسه النحل. {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم، والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} قوله تعالى}ومنهم من يستمع إليك}أي من هؤلاء الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وزين لهم سوء عملهم قوم يستمعون إليك وهم المنافقون: عبدالله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت وزيد بن الصليت والحارث بن عمرو ومالك بن دخشم، كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه، فإذا خرجوا سألوا عنه، قاله الكلبي ومقاتل. وقيل: كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، فيستمعون منه ما يقول، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر. }حتى إذا خرجوا من عندك}أي إذا فارقوا مجلسك. }قالوا للذين أوتوا العلم}قال عكرمة: هو عبدالله بن العباس. قال ابن عباس: كنت ممن يُسأل، أي كنت من الذين أوتوا العلم. وفي رواية عن ابن عباس: أنه يريد عبدالله بن مسعود. وكذا قال عبدالله بن بريدة: هو عبدالله بن مسعود. وقال القاسم بن عبدالرحمن: هو أبو الدرداء. وقال ابن زيد: إنهم الصحابة. }ماذا قال آنفا}أي الآن، على جهة الاستهزاء. أي أنا لم ألتفت إلى قوله. و}آنفا}يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات إليك، من قولك: استأنفت الشيء إذا ابتدأت به. ومنه أمر أنف، وروضة أنف، أي لم يرعها أحد. وكأس أنف: إذا لم يشرب منها شيء، كأنه استؤنف شربها مثل روضة أنف. قال الشاعر: وقال آخر: للطاعنين الخيل والخيل قطف وقال امرؤ القيس: أي في أوله. وأنف كل شيء أوله. وقال قتادة في هؤلاء المنافقين: الناس رجلان: رجل عقل عن الله فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل ولم ينتفع بما سمع. وكان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عامل، وسامع عاقل، وسامع غافل تارك. قوله تعالى}أولئك الذين طبع الله على قلوبهم}فلم يؤمنوا. }واتبعوا أهواءهم}في الكفر. }والذين اهتدوا}أي للإيمان زادهم الله هدى. وقيل: زادهم النبي صلى الله عليه وسلم هدى. وقيل: ما يستمعونه من القرآن هدى، أي يتضاعف يقينهم. وقال الفراء: زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى. وقيل: زادهم نزول الناسخ هدى. وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل: أحدها: زادهم علما، قاله الربيع بن أنس. الثاني: أنهم علموا ما سمعوا وعملوا بما علموا، قاله الضحاك. الثالث: زادهم بصيرة في دينهم وتصديقا لنبيهم، قاله الكلبي. الرابع: شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان. قوله تعالى}وآتاهم تقواهم}أي ألهمهم إياها. وقيل: فيه خمسة أوجه: أحدها: آتاهم الخشية، قاله الربيع. الثاني: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي. الثالث: وفقهم للعمل الذي فرض عليهم، قاله مقاتل. الرابع: بين لهم ما يتقون، قاله ابن زياد والسدي أيضا. الخامس: أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية. الماوردي: ويحتمل. سادسا: أنه ترك الرخص والأخذ بالعزائم. وقرئ }وأعطاهم}بدل }وآتاهم}. وقال عكرمة: هذه نزلت فيمن آمن من أهل الكتاب. {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} قوله تعالى}فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة}أي فجأة. وهذا وعيد للكفار. }فقد جاء أشراطها}أي أماراتها وعلاماتها. وكانوا قد قرؤوا في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، فبعثه من أشراطها وأدلتها، قاله الضحاك والحسن. ويقال: أشرط فلان نفسه في عمل كذا أي أعلمها وجعلها له. قال أوس بن حجر يصف رجلا تدلى بحبل من رأس جبل إلى نبعة يقطعها ليتخذ منها قوسا: {أن تأتيهم بغتة}}أن}بدل اشتمال من }الساعة}، نحو قوله قوله تعالى}فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم}}ذكراهم}ابتداء و}أنى لهم}الخبر. والضمير المرفوع في }جاءتهم}للساعة، التقدير: فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة، قال معناه قتادة وغيره. وقيل: فكيف لهم بالنجاة إذا جاءتهم الذكرى عند مجيء الساعة، قاله ابن زيد. وفي الذكرى وجهان: أحدهما: تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر. الثاني: هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيرا وتخويفا، {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم} قوله تعالى}فاعلم أنه لا إله إلا الله}قال الماوردي: وفيه - وإن كان الرسول عالما بالله - ثلاثة أوجه: يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله. الثاني: ما علمته استدلالا فاعلمه خبرا يقينا. الثالث: يعني فاذكر أن لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه. وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به }فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك}فأمر بالعمل بعد العلم وقال}اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو}إلى قوله قوله تعالى}واستغفر لذنبك}يحتمل وجهين: أحدهما: يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني: استغفر الله ليعصمك من الذنوب. وقيل: لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان، أي اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص والحذر عما تحتاج معه إلى استغفار. وقيل: الخطاب له والمراد به الأمة، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين. وقيل: كان عليه السلام يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين، فنزلت الآية. أي فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله، فلا تعلق قلبك بأحد سواه. وقيل: أمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة. }وللمؤمنين والمؤمنات}أي ولذنوبهم. وهذا أمر بالشفاعة. و قوله تعالى}والله يعلم متقلبكم ومثواكم}فيه خمسة أقوال: أحدها: يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم. الثاني}متقلبكم}في أعمالكم نهارا }ومثواكم}في ليلكم نياما. وقيل }متقلبكم}في الدنيا. }ومثواكم}في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس والضحاك. وقال عكرمة}متقلبكم}في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات. }ومثواكم}مقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان}متقلبكم}من ظهر إلى بطن الدنيا. }ومثواكم}في القبور. قلت: والعموم يأتي على هذا كله، فلا يخفى عليه سبحانه شيء من حركات بني آدم وسكناتهم، وكذا جميع خلقه. فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلا أولى وأخرى. سبحانه! لا إله إلا هو. {ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم، طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم} قوله تعالى}ويقول الذين آمنوا}أي المؤمنون المخلصون. }لولا نزلت سورة}اشتياقا للوحي وحرصا على الجهاد وثوابه. ومعنى }لولا}هلا. }فإذا أنزلت سورة محكمة}لا نسخ فيها. قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين. وفي قراءة عبدالله }فإذا أنزلت سورة محدثة}أي محدثة النزول. }وذكر فيها القتال}أي فرض فيها الجهاد. وقرئ }فإذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال}على البناء للفاعل ونصب القتال. }رأيت الذين في قلوبهم مرض}أي شك ونفاق. }ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت}أي نظر مغموصين مغتاظين بتحديد وتحديق، كمن يشخص بصره عند الموت، وذلك لجبنهم عن القتال جزعا وهلعا، ولميلهم في السر إلى الكفار. قوله تعالى}فأولى لهم}قال الجوهري: وقولهم: أولى لك، تهديد ووعيد. قال الشاعر: قال الأصمعي: معناه قاربه ما يهلكه، أي نزل به. وأنشد: أي قارب أن يزيد. قال ثعلب: ولم يقل أحد في }أولى}أحسن مما قال الأصمعي. وقال المبرد: يقال لمن هم بالعطب ثم أفلت: أولى لك، أي قاربت العطب. كما روي أن أعرابيا كان يوالي رمي الصيد فيفلت منه ليقول: أولى لك. ثم رمى صيدا فقاربه ثم أفلت منه فقال: وقيل: هو كقول الرجل لصاحبه: يا محروم، أي شيء فاتك وقال الجرجاني: هو مأخوذ من الويل، فهو أفعل، ولكن فيه قلب، وهو أن عين الفعل وقع موقع اللام. وقد تم الكلام على قوله}فأولى لهم}. قال قتادة: كأنه قال العقاب أولى لهم. وقيل: أي وليهم المكروه. ثم قال}طاعة وقول معروف}أي طاعة وقول معروف أمثل وأحسن، وهو مذهب سيبويه والخليل. وقيل: إن التقدير أمرنا طاعة وقول معروف، فحذف المبتدأ فيوقف على }فأولى لهم}. وكذا من قدر يقولون منا طاعة. وقيل: إن الآية الثانية متصلة بالأولى. واللام في قوله}لهم}بمعنى الباء، أي الطاعة أولى وأليق بهم، وأحق لهم من ترك أمتثال أمر الله. وهي قراءة أبي }يقولون طاعة}. وقيل إن}طاعة}نعت لـ }سورة}، على تقدير: فإذا أنزلت سورة ذات طاعة، فلا يوقف على هذا على }فأولى لهم}. قال ابن عباس: إن قولهم }طاعة}إخبار من الله عز وجل عن المنافقين. والمعنى لهم طاعة وقول معروف، قيل: وجوب الفرائض عليهم، فإذا أنزلت الفرائض شق عليهم نزولها. فيوقف على هذا على }فأولى}. }فإذا عزم الأمر}أي جد القتال، أو وجب فرض القتال، كرهوه. فكرهوه جواب }إذا}وهو محذوف. وقيل: المعنى فإذا عزم أصحاب الأمر. }فلو صدقوا الله}أي في الإيمان والجهاد. }لكان خيرا لهم}من المعصية والمخالفة. {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} قوله تعالى}فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض}اختلف في معنى }إن توليتم}فقيل: هو من الولاية. قال أبو العالية: المعنى فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجُعِلتم حكاما أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا. وقال الكلبي: أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم. وقال ابن جريج: المعنى فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام. وقال كعب: المعنى فهل عسيتم إن توليتم الأمر أن يقتل بعضكم بعضا. وقيل: من الإعراض عن الشيء. قال قتادة: أي فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام، وتقطعوا أرحامكم. وقيل}فهل عسيتم}أي فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض فتعودوا إلى جاهليتكم. وقرئ بفتح السين وكسرها. وقد مضى في }البقرة}القول فيه مستوفى. وقال بكر المزني: إنها نزلت في الحرورية والخوارج، وفيه بعد. والأظهر أنه إنما عني بها المنافقون. وقال ابن حيان: قريش. ونحوه قال المسيب بن شريك والفراء، قالا: نزلت في بني أمية وبني هاشم، ودليل هذا التأويل ما قوله تعالى}وتقطعوا أرحامكم}بالبغي والظلم والقتل. وقرأ يعقوب وسلام وعيسى وأبو حاتم }وتقطعوا}بفتح التاء وتخفيف القاف، من القطع، اعتبارا بقوله تعالى قلت: ويدل قوله هذا على أنهما لغتان. وقد مضى القول فيه في }البقرة}مستوفى. قوله تعالى}أولئك الذين لعنهم الله}أي طردهم وأبعدهم من رحمته. }فأصمهم}عن الحق. }وأعمى أبصارهم}أي قلوبهم عن الخير. فأتبع الأخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه لعنته، وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل. وقال}فهل عسيتم}ثم قال}أولئك الذين لعنهم الله}فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك. }أفلا يتدبرون القرآن}أي يتفهمونه فيعلمون ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام. }أم على قلوب أقفالها}أي بل على قلوب أقفال أقفلها الله عز وجل عليهم فهم لا يعقلون. وهذا يرد على القدرية والإمامية مذهبهم. كيف قريت شيخك الأزبا القِرْشَبُّ بكسر القاف المسن، عن الأصمعي. وأقفله الصوم أي أيبسه، قاله القشيري والجوهري. فالأقفال ها هنا إشارة إلى ارتجاج القلب وخلوه عن الإيمان. أي لا يدخل قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر، لأن الله تعالى طبع على قلوبهم وقال}على قلوب}لأنه لو قال على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة. والمراد أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها. قوله عليه السلام: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم} قوله تعالى}إن الذين ارتدوا على أدبارهم}قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم، قاله ابن جريج. وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون، قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن. }الشيطان سول لهم}أي زين لهم خطاياهم، قاله الحسن. }وأملى لهم}أي مد لهم الشيطان في الأمل ووعدهم طول العمر، عن الحسن أيضا. وقال: إن الذي أملى لهم في الأمل ومد في آجالهم هو الله عز وجل، قاله الفراء والمفضل. وقال الكلبي ومقاتل: إن معنى }أملى لهم}أمهلهم، فعلى هذا يكون الله تعالى أملى لهم بالإمهال في عذابهم. وقرأ أبو عمرو وابن إسحاق وعيسى بن عمرو أبو جعفر وشيبة }وأملي لهم}بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء، على ما لم يسم فاعله. وكذلك قرأ ابن هرمز ومجاهد والجحدري ويعقوب، إلا أنهم سكنوا الياء على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم، كأنه قال: وأنا أملي لهم. واختاره أبو حاتم، قال: لأن فتح الهمزة يوهم أن الشيطان يملي لهم، وليس كذلك، فلهذا عدل إلى الضم. قال المهدوي: ومن قرأ }وأملى لهم}فالفاعل اسم الله تعالى. وقيل الشيطان. واختار أبو عبيد قراءة العامة، قال: لأن المعنى معلوم، لقوله {ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم} قوله تعالى}ذلك بأنهم قالوا}أي ذلك الإملاء لهم حتى يتمادوا في الكفر بأنهم قالوا، يعني المنافقين واليهود. }للذين كرهوا ما نزل الله}وهم المشركون. }سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم}أي في مخالفة محمد والتظاهر على عداوته، والقعود عن الجهاد معه وتوهين أمره في السر. وهم إنما قالوا ذلك سرا فأخبر الله نبيه. وقراءة العامة }أسرارهم}بفتح الهمزة جمع سر، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ الكوفيون وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم }إسرارهم}بكسر الهمزة على المصدر، نحو قوله تعالى {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} قوله تعالى}فكيف}أي فكيف تكون حالهم. }إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم}أي ضاربين، فهو في موضع الحال. ومعنى الكلام التخويف والتهديد، أي إن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر. وقد مضى في }الأنفال والنحل}. وقال ابن عباس: لا يتوفى أحد على معصية إلا بضرب شديد لوجهه وقفاه. وقيل: ذلك عند القتال نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بضرب الملائكة وجوههم عند الطلب وأدبارهم عند الهرب. وقيل: ذلك في القيامة عند سوقهم إلى النار. {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} قوله تعالى}ذلك}أي ذلك جزاؤهم. }بأنهم اتبعوا ما أسخط الله}قال ابن عباس: هو كتمانهم ما في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. وإن حملت على المنافقين فهو إشارة إلى ما أضمروا عليه من الكفر. }وكرهوا رضوانه}يعني الإيمان. }فأحبط أعمالهم}أي ما عملوه من صدقة وصلة رحم وغير ذلك، على ما تقدم. {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم} قوله تعالى}أم حسب الذين في قلوبهم مرض}نفاق وشك، يعني المنافقين. }أن لن يخرج الله أضغانهم}الأضغان ما يضمر من المكروه. واختلف في معناه، فقال السدي: غشهم. وقال ابن عباس: حسدهم. وقال قطرب: عداوتهم، وأنشد قول الشاعر: وقيل: أحقادهم. واحدها ضغن. قال: وقد تقدم. وقال عمرو بن كلثوم: قال الجوهري: الضغن والضغينة: الحقد. وقد ضغن عليه الكسر ضغنا. وتضاغن القوم واضطغنوا: أبطنوا على الأحقاد. واضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك. وأنشد الأحمر: أي حامله في حجره. وقال ابن مقبل: وفرس ضاغن: لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب. والمعنى: أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام. }ولو نشاء لأريناكهم}أي لعرفناكهم. قال ابن عباس: وقد عرفه إياهم في سورة }التوبة}. تقول العرب: سأريك ما أصنع، أي سأعلمك، ومنه قوله تعالى أي ما عرف بالمعنى ولم يصرح به. مأخوذ من اللحن في الإعراب، وهو الذهاب عن الصواب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: منطق رائع وتلحن أحيانا وخير الحديث ما كان لحنا يريد أنها تتكلم بشيء وهي تريد غيره، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها. وقد قال تعالى}ولتعرفنهم في لحن القول}. وقال القتال الكلابي: وقال مرار الأسدي: قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم منافق إلا عرفه. وقيل: كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد، فنبهه الله تعالى عليه، فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم. قال أنس: فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه. }والله يعلم أعمالكم}أي لا يخفى عليه شيء منها. {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} قوله تعالى}ولنبلونكم}أي نتعبدكم بالشرائع لان علمنا عواقب الأمور. وقيل: لنعاملنكم معاملة المختبرين. }حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين}عليه. قال ابن عباس}حتى نعلم}حتى نميز. وقال على رضي الله عنه. }حتى نعلم}حتى نرى. وقد مضى في }البقرة}. وقراءة العامة بالنون في }نبلونكم}و}نعلم}}ونبلو}. وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء فيهن. وروى رويس عن يعقوب إسكان الواو من }نبلو}على القطع مما قبل. ونصب الباقون ردا على قوله}حتى نعلم}. وهذا العلم هو العلم الذي يقع به الجزاء، لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم. فتأويله: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة. }ونبلو أخباركم}نختبرها ونظهرها. قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلنا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم} قوله تعالى}إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله}يرجع إلى المنافقين أو إلى اليهود. وقال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر. نظيرها {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} قوله تعالى}يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}لما بين حال الكفار أمر المؤمنين بلزوم الطاعة في أوامره والرسول في سننه. }ولا تبطلوا أعمالكم}أي حسناتكم بالمعاصي، قال الحسن. وقال الزهري: بالكبائر. ابن جريج: بالرياء والسمعة. وقال مقاتل والثمالي: بالمن، وهو خطاب لمن كان يمن على النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه. وكله متقارب، وقول الحسن يجمعه. وفيه إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات، والمعاصي تخرج عن الإيمان. احتج علماؤنا وغيرهم بهذه الآية على أن التحلل من التطوع - صلاة كان أو صوما - بعد التلبس به لا يجوز، لأن فيه إبطال العمل وقد نهى الله عنه. وقال من أجاز ذلك - وهو الإمام الشافعي وغيره - : المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، فنهى الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلا فلا، لأنه ليس واجبا عليه. فان زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه أن النفل تطوع، والتطوع يقتضي تخبيرا. وعن أبي العالية كانوا يرون أنه لا يضر مع الإسلام ذنب، حتى نزلت هذه الآية فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل: يقول الله تعالى إذا عصيتم الرسول فقد أبطلتم أعمالكم. {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم} بين أن الاعتبار بالوفاة على الكفر يوجب الخلود في النار. وقد مضى في }البقرة}الكلام فيه. وقيل: إن المراد بالآية أصحابة القليب. وحكمها عام. {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} قوله تعالى}فلا تهنوا}أي تضعفوا عن القتال. والوهن: الضعف وقد وهن الإنسان ووهنه غيره، يتعدى ولا يتعدى. قال: ووهن أيضا بالكسر وهنا أي ضعف، وقرئ }فما وهنوا}بضم الهاء وكسرها. وقد مضى في آل عمران. قوله تعالى}وتدعوا إلى السلم}أي الصلح. }وأنتم الأعلون}أي وأنتم أعلم بالله منهم. وقيل: وأنتم الأعلون في الحجة. وقيل: المعنى وأنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال. وقال قتادة: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. واختلف العلماء في حكمها، فقيل: إنها ناسخة لقوله تعالى {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم، إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} قوله تعالى}إنما الحياة الدنيا لعب ولهو}تقدم في }الأنعام. }وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم}شرط وجوابه. }ولا يسألكم أموالكم}أي لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض، قاله أين عيينة وغيره. وقيل}لا يسألكم أموالكم}لنفسه أو لحاجة منه إليها، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم. وقيل}لا يسألكم أموالكم}إنما يسألكم أمواله، لأنه المالك لها وهو المنعم بإعطائها. وقيل: ولا يسألكم محمد أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة. نظيره قوله تعالى}إن يسألكموها فيحفكم}يلح عليكم، يقال: أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد. والحفي المستقصي في السؤال، وكذلك الإحفاء الاستقصاء في الكلام والمنازعة. ومنه أحفى شاربه أي استقصى في أخذه. }تبخلوا ويخرج أضغانكم}أي يخرج البخل أضغانكم. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد }وتخرج}بتاء مفتوحة وراء مضمومة. }أضغانكم}بالرفع لكونه الفاعل. وروى الوليد عن يعقوب الحضرمي }ونخرج}بالنون. وأبو معمر عن عبدالوارث عن أبي عمرو }ومخرج}بالرفع في الجيم على القطع والاستئناف والمشهور عنه }ويخرج}كسائر القراء، عطف على ما تقدم. { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} قوله تعالى}ها أنتم هؤلاء تدعون}أي ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون }لتنفقوا في سبيل الله}أي في الجهاد وطريق الخير. }فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه}أي على نفسه، أي يمنعها الأجر والثواب. }والله الغني}أي إنه ليس بمحتاج إلى أموالكم. }وأنتم الفقراء}إليها. }وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}أي أطوع لله منكم. ختمت السورة بحمد الله وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الأطهار.
|